الاثنين، 22 أبريل 2013

التردد "مقال طويل"



التردد "مقال طويل"

الرجل بالرغم من قوته و سطوته و هيلمانه غلبان..
إنه قوام على المرأة..وصى عليها..سابق عليها فى الشهادة و فى الميراث و فى الاعتبار..
إمبراطور على بيتها يحكم فيه و يعز و يذل و يهدمه إن شاء بكلمة من فمه..
و لكنه يعلم أن كل هذه السطوة و السيادة خرافية..
و أنه إمبراطور غلبان على دولة وهمية من ورق اللعب.

إنه فى احتياج إلى المرأة مهما فعل..
و هذا الاحتياج يقلم أظافره و يخلع أنيابه و يروض وحشيته و يعود به وديعا ذلولا طبعا حانيا على صدر امرأته..
و ماذا يجدى الصياح و الصراخ و الهدير و الزئير و القلب من الداخل يتمسح كالقطة ؟؟
إنه فى حاجة الى المرأة ليبنى حبا..
فى حاجة إليها ليبنى بيتا..
فى حاجة إليها ليكون ربا لأسرة..
و هو يدرك هذا الضعف فى نفسه و يقاومه و يحاول الخلاص من رقبته.. فيتخذ من المرأة زميلة أو صديقة أو عشيقة أو خليلة..
و يتجنب الوقوع فى شرك الزواج حتى لا تصبح حاجته طابع حياته كلها.

إنه يتجنب الوقوع فى الإحتياج الدائم..
بالوقوع فى الاحتياج المؤقت..
يشبعه من وقت لآخر..
بكلمة أو وعد بالحب أو قبلة أو ساعة فراش..
ثم يذهب كل واحد منا إلى حاله..
بدون أمل..
و بدون خيبة أمل.

و الخوف..
الخوف وحده هو الذى يجعله يتردد..
و يؤخر زواجه سنة بعد أخرى..
الخوف من ضعفه.
و الخوف على قوته..
و الخوف على أوهامه..
الخوف من ألا يجد الإخلاص..
الخوف من أن يبنى بيته على كذبة..
و ماذا هناك أشنع من الأكاذيب..
و ماذا هناك أشنع من أن تخونه زوجته و تنجب له أولادا من الآخرين ..
و ماذا هناك أشنع من أن يكون رب أسرة مزعومة و زوجا غير ذى موضوع.

و لماذا التعب ؟؟
إن الموت فى عزوبة و وحدة أفضل و أصدق من زواج إسمى..
و المرأة تدرك فى نفسها هذه القوة..
إنها هى الوحيدة التى تستطيع أن تصنع بيتا..
إنها هى الوحيدة التى تملك رحما ينجب الأولاد..
إن خيرها و شرها يصنع واقع البيت..
أما الرجل فأخطاؤه شفوية لا تترك أثرا..
و مع هذا فهو المسئول..
هو الذى يعمل و يكدح و ينفق و يحمل همها..
و يحمل عارها أيضا..
فالمجتمع يمسح فيه أخطاءها حينما تخطىء..
و يقول عنه إنه ناقص الرجولة..
و هى حرة..
إشارة من رمش عينها..
و نزوة طارئة و مشوار نصف ساعة بحجة الخياطة أو الكوافير أو طبيب الأسنان..
تستطيع أن تعود حاملا فى طفل غير معروف الأصل..
إنها هى وحدها التى تشكل واقع البيت كما تشاء..
بالصدق أو الكذب..
بالحرام أو بالحلال..
و الرجل وحده هو الذى يدفع الثمن كاملا رضى أم لم يرض.

إن الزواج مجازفة تقتضى من الرجل كل شجاعته..
إن الرجل يضحى بحريته وراحة باله فى سبيل إقامة بيت لا يعرف مصيره.. و عزاؤه الوحيد هو هذا الزعم الخرافى..
بأنه سوف يصبح عبدا لألف حاجة و حاجة..
و ألف طلب و طلب و خادما لأصغر فرد فى هذه الأسرة.

و لهذا يتردد الرجل فى الزواج..
ليس لأنه شاطر و ليس لأنه ناصح..
و لكن لأنه يعلم أنه خيبان..
و لأنه لا يريد أن يحتفل بخيبته.

و إذا كان الجيل القديم من البنات كان عنده من وازع الدين و التقاليد ما يعصمه من الزلل و الخيانة..
و يجعل منه جيلا كفؤا لحمل مسئولية البيت بشكل يطمئن الرجل..
فإن الجيل الجديد جيل مسعور بالحرية مشغول بالبحث عن حقوقه و مسراته قبل البحث عن واجباته..
و البنت الجديدة تتحدث عن حقها فى المغامرة..و حقها فى أن يكون لها صديق و حبيب..
و عن حقها فى السهر..
و فضيلتها الوحيدة..
فضيلة الحب و إختيار الزوج..
فضيلة قلقة و مبلبلة..
فهى ما زالت تتخبط بين حبها لرجل لا تتزوجه و زواجها من رجل لا تحبه.. و هى فى اللحظة الحاسمة – لحظة اختيار الزوج – تشك فى نفسها..
و فى إختيارها..
و فى حبها..
و لا تعرف هل هى اختارت هذا الرجل بالذات لأنها تحبه حقا أم أنها فى الحقيقة قد ضاقت بالقيود فى بيت أبيها فأرادت الهروب من هذه القيود عن طريق أية دبلة يقدمها لها أى رجل ؟؟
أم هى قد ضاقت بعنوستها و خشيت البوار و خافت أن يفوتها القطار فتعلقت باية عربة ساقتها لها الصدفة ؟؟

و كل هذه البلبلة تتفاقم و تتضح بعد الزواج..
و على الرجل أن يواجه هذه البلبلة..
و يتزوج هذه البلبلة..
و يرهن مصيرة فى هذا البنك المفلس غير الواثق من عواطفه..
و هذه محنة الرجل..
و البنت الجديدة تطمئن الرجل بأنها سوف تعمل و تكافح و تكسب مثله لتشاركه فى المعاش..
و لكن الحقيقة أن الأموال التى تكسبها المرأة المكافحة تنفقها على نفسها ثمنا للروج و الفساتين و المواصلات..
و يبقى البيت فى حاجة إلى طباخ و خادمة و مرضعة و مربية..
لأن المكافحة تخرج فى الصباح و لا تعود إلا فى المساء..
و إذا عادت فى الظهر فإنها تكون مرهقه لا تصلح إلا للنوم..
و بعد القيام من النوم يلزم لها ترفيه طبعا لأنها مكافحة.

إن تردد الرجل العصرى أمام الزواج إذن ليس شطارة و ليس دوارة..
و لكنه محنة حقيقية..
و البنات من حوله يزدنه شعورا بهذه المحنة يوما بعد آخر..
و يزلزلن الأرض تحت قدميه..
الأرض التى أن يبنى عليها بيته..
و ليس معنى أن كل النساء خائنات..
لا أبدا..
إن الفضيلة مازالت هى الغالبة..
و لكنها فضيلة حائرة مبلبلة غير واثقة من نفسها..
و هى تنقل عدواها إلى الرجل فيفقد الأمان و يفقد الثقة هو الآخر.

و سنوات الشباب تمر بسرعة..

و أحلام الرجل فى الزواج و الاستقرار تتضاءل..
فى سن الثلاثين يحلم بزوجة جميلة فاتنة متعلمة من عائلة محترمة..
و لكن التردد يضيع عليه فرصة بعد أخرى..
حتى يبلغ الأربعين و يفقد غرور الشباب..
فيتنازل عن إشتراطاته و يتواضع فى أحلامه..
و حسبه فى هذه السن أن يعثر على فتاة مقبولة الشكل من عائلة محافظة تقدر الحياة الزوجية..
فإذا تقدم به السن أكثر من هذا فهو يبحث عن فتاه بها عيب لترضى به..
و بطل راوية " و جهان فى المرآة "و هو مدرس تقدمت به السن يبحث عن فتاة قبيحة إمعانا فى التواضع..
و هو يفرح حينما يعثر على مارى جوزى العاملة العانس التى فاتها قطار الزواج..
و التى يكلل و جهها أنفا كبير مثل أنف سيرانو دى برجراك يطرد العرسان على بعد كيلو متر..
و هو يفرح أكثر حينما يكتشف أنها هادئة وديعة..
لا تحب السهر و لا الرقص و لا الاختلاط بالشبان..
و يتزوجها و ينجب منها ولدين و يعيش فى سعادة..
و لكن المصادفة تقود فى طريق البيت طبيبا للتجميل..
و تجرى الزوجة جراحة لتصغير أنفها..
و تنقلب إلى امرأة فاتنة يتودد إليها الرجال..
و تنقلب جنة البيت فى نفس الوقت إلى جحيم..
فالزوجة الوديعة الهادئة التى كانت لاتحب السهر و لا الإختلاط بالشبان أصبحت تموت فى السهر و الإختلاط بالشبان..
و هى فى النهاية ترتمى بين ذراعى عشيق لتخون زوجها..
إن فضيلتها تبخرت..
إنها لم تكن فضيلة..
لقد كانت ظلا مهزوزا لوجه قبيح مشوه..
كانت بلبلة امرأة غير واثقة من نفسها و لا من عواطفها..
و يتحطم الرجل..
و يتحطم البيت.

و هذا الرجل فيه مخاوف كل رجل..
و فيه قلقه و عذابه..
و بحثه عن الاطمئنان فى جيل مهزوز..
و إستعداده لأن يدفع فى سبيل هذا الاطمئنان أى ثمن..
حتى الزواج بعانس قبيحة.

إن المصيدة التى إصطادت هذا الرجل لم تكن قلم الروج و لا قلم الكحل..
و لكنها كانت الإحساس الذى تسلل إلى قلبه بأن هذه المرأة وحدها سوف تكون راحته و إطمئنانه.

و هذه مشكلة كل رجل..
إن الرجل فى حقيقته ليس إمبراطورا و ليس ربا لأسرته..
و لكنه عبدا لهذه الأسرة و خادما لأصغر فرد فيها..
خادم لا يطلب إلا الأمان و الإطمئنان بأفدح الأثمان.

د.مصطفى محمود

0 التعليقات :